تردّد اصطلاح الواجب عند القراء بين الشرعي والصناعي والاصطلاحي
كثيرا ما يتردد اصطلاح الواجب في كتب القراءات والتجويد ولكنّه لا يراد به نفس المعنى كما أنّه لا يراد به دائما المعنى المشهور المتبادر إلى ذهن عموم المسلمين عند سماع هذه اللفظة ألا وهو ما يلزم المكلفين فعله ... لهذا وجب تسجيل وقفة ها هنا نبيّن فيها حقيقة هذا الاصطلاح عند أهل القراءة والتجويد ...
1. الواجب الشرعي[1] هو عند جماهير الأصوليين "ما طلب الشارع فعله لزوما" أو هو كما عرّفه الشوكاني رحمه الله "ما يمدح فاعله ويذم تاركه على بعض الوجوه" وعرّفه أبو الوليد الباجي بقوله "ما كان في تركه عقاب من حيث هو تركٌ له على وجه ما " وهو اصطلاح مشترك بين علماء الشريعة قاطبة وهو المرادف عند الجمهور للفرض ويسمى كذلك بالمكتوب والحقّ والحتم...وإذا أطلق هذا الاصطلاح في شتّى الفنون والعلوم الشرعية من غير قرينة صارفة سواء كانت حالا أو مقاما أو سياقا أو لفظا أو نغما...انصرف إلى هذا المعنى المذكور ها هنا .
ويرى صاحب السلسبيل [2] أنّ الواجب الشرعي إنّما يطلق عند علماء التجويد والقراءات ويقصد به أحد معنيين اثنين الأوّل :ما يحفظ الحرف من تغيير مبناه ومعناه وهو ما يلزم لتجنب ما يسمى باللحن الجليّ حيث يقول :
صيانة اللفظ عن الجليّ يدعونه بالواجب الشرعيّ [3]
الثاني: ما أجمع عليه القراء من المسائل والأحكام ويقول في حقّه :
وقيل إنّ الواجبَ الشرعيّا ما فيه إجماعهم سويّا
أمّا القسم الأوّل فهو مندرج في تعريف الواجب الشرعي الذي ذكرناه في أوّل المطلب لأنّه تغيير لمعنى ومبنى الكلمة بغير وجه حقّ وهذا النوع من التغيير تحريف لكلام الله عزّ وجلّ القائل في كتابه {قرآنا عربيا غير ذي عوج}وأمّا القسم الثاني فغالب ما أجمع عليه القراء وعلماء التجويد من الأوجه والأحكام مندرج فيه (الواجب الشرعي) لأنّ جلّ المباحث المجمع عليها لا يجوز العدول عنها والقراءة بغيرها وما يخالفها لا يعدّ قرآناً أصلا ولكن هذا في الغالب الأعمّ إذ يوجد من المجمع عليه بين القراء ما ليس بواجب شرعيّ عندهم ولا يأثم من تركه على وجه العبادة لا الرواية عن القراء ومشايخ الأداء ...ومثال ذلك الاستعاذة في أوّل القراءة فهي ممّا لا خلاف في لزومها عندهم ولكن تركها على مذهب جمهور الفقهاء لا يوجب إثما شرعيا... ولكن ممّا يدلّ على أنّهم إنّما أرادوا به ما قدّمنا في أوّل هذا المطلب قول ابن غازي في شرحه : "الواجب في علم التجويد ينقسم إلى قسمين : أحدهما: شرعي وهو ما أجمع عليه القراء كالإخفاء والإدغام والإظهار والإقلاب وترك المدّ فيما أجمع على قصره وترك القصر فيما أجمع على مدّه , وغير ذلك ممّا ليس فيه خلاف , فهذا الواجب يفسق تاركه ويكون مرتكبا لكبيرة كما دلّ عليه الحديث السابق (اقرءوا القرآن بلحون العرب) الحديث"اهـ[4]
2. الواجب الصناعي : هو ما أجمع عليه علماء التجويد وأهل الاختصاص من المسائل والأحكام بحث لا يجيزون في عرفهم تركها...ويلزمون الآخذين عنهم بها ... ولكن هذا الحتم والإلزام مردّه ومرجعه عرفُهم الخاص لا الشريعة العامة فلا يأثم تاركه عند الله عزّ وجلّ ولا يعدّ عاصيا ولا يستوجب العقوبة والذم عند غير القراء ... ومن أمثلة الواجب الصناعي مسألة الاستعاذة المتقدمة وكذلك البسملة في أوّل السور إذا ابتدأ بها القارئ فإنّها واجبة عندهم يلزمون من ابتدأ القراءة من أوّل السورة أن يأتي بها رغم أنّها في الشرع عامة ليست ملزمة للخلاف الوارد فيها...ومن أمثلة الواجب الصناعي عند بعض علماء التجويد لا كلّهم ـ خاصة المتأخرين منهم ـ أحكام الإدغام والإخفاء والترقيق والتفخيم ونحوها ممّا هو لازم عندهم من تركه عزّر بما يقتضيه علمهم وعرفهم كطلب الإعادة وعدم الاعتداد بالقراءة أو عدم الإقرار والإجازة ونحو ذلك ...[5]
ولصاحب السلسبيل في تعريف الواجب الصناعي أربعة أقوال الأوّل منها نصّ عليه بقوله :
(156) وصونُهُ عنِ الخفيِّ المشاعِ يدعونه بالواجب الصناعي
قال صاحب معجم مصطلحات علم القراءات يشرح هذا القول :"هو صون اللفظ عن اللحن الخفيّ , كالإدغام والإخفاء والقلب والترقيق والتفخيم , ممّا لا يتغير معه المعنى , لكن يذهب برونق وجمالية اللفظ , ومرتكبه غير آثم على أحد الأقوال."[6]
أما الأقوال الثلاثة الأخرى فنصّ عليها بقوله :
(158) والواجب الثاني أيّ الصناعي على ثلاثةٍ من الأنواعِ
(159) تعـليمـُ مـن بطبعه يجيدُ قراءةً أوْ شأنُهُ التقليدُ
(160) أو كان من حُكْمِ الوقوف يدري أو من مسائل اختلافِ القرّا
قال ابن غازي يشرح هذه الأوجه الثلاثة للواجب الصناعي :"الأوّل : ما كان من مسائل الخلاف نحو قوله {تجري من تحتها الأنهار} آخر التوبة ونحو قوله {فإنّ الله هو الغني الحميد} فإنّ الأوّل قرأه ابن كثير بزيادة {من} قبل {تحتها الأنهار} , وقرأه الباقون بترك تلك الزيادة . والثاني قرأه نافع وابن عامر و وكذا أبو جعفر بترك {هو} فيصير اللفظ {فإنّ الله الغنيّ الحميد} وقرأه الباقون {فإنّ الله هو الغني الحميد} بزيادة {هو}قبل {الغنيّ} وهذا الواجب أعني ما كان من وجوه الاختلاف لا يأثم تاركه ولا يتّصف بالفسق .
والثاني : ما كان من جهة الوقف فإنّه لا يجب على القارئ الوقف على محل معيّن بحيث لو تركه يأثم , ولا يحرم الوقف على كلمة بعينها إلاّ إذا كانت موهمة وقصدها و فإن اعتقد معناها كفر والعياذ بالله كأن وقف على قوله {إنّ الله لا يستحيي} {ومن إله إلاّ الله} {وإنّي كفرتُ} وشبه ذلك , ومعنى قولهم لا يوقف على كذا معناه أنّه لا يحسن الوقف صناعة على كذا وليس معناه أنّ الوقف يكون حراماً , قالوا : ونحو قوله {لقد سمع الله قول الذين قالوا } وابتدأ بما بعد ذلك[7] فيحرم عليه فإن اعتقد معناه كفر كما هو ظاهر" [8]
"والثالث : وجوبه على من أخذ القراءة علي شيخ متقن ولم يتطرّق إليه اللحن سبيلا من غير معرفة أحكام وعلى العربي الفصيح الذي لا يتطرق غليه اللحن سبيلا بأن كان طبعه القراءة بالتجويد من غير أن يخلّ بشيء في قراءته من الأحكام المجمع عليها فإن تعلم هذين للأحكام أمر صناعي أما من أخلّ بشيء من الأحكام المجمع عليها أو لا يكون عربيا فلا بدّ في حقّه من تعلّم الأحكام والأخذ بمقتضاها من أفواه المشايخ فإن لم يفعل أثم بالإجماع ." اهـ[9]
يبدو أنّ هذه الأقسام والأنواع المذكورة ها هنا إمّا أنّها لا تخرج في حقيقة الأمر عن كونها مطلوبة عند القراء لكن ليس على سبيل اللزوم الشرعي الذي يوجب تركه المعصية والإثم كطلبهم نهاية التحسين والإتقان في التجويد ما يتطلّب اجتناب اللحون الخفية فهو واجب في علمهم مطلوب في فنّهم من تركه عزّر بما يقتضيه عرفهم ...والواجب في الوقف ؛ نصّ غير واحد من الأئمة على وجوب بعض القفات في القرآن الكريم ولزومها ووضعوا لها علامات خاصة في القرآن الكريم عرّفه الشيخ الحصري رحمه الله بقوله : " هو الوقف على كلمة لو وصلت بما بعدها لأوهم وصلها معنى غير المعنى المراد ..."[10]ولكن هذا الوجوب واللزوم لا يقصد به اللزوم الشرعي الذي يأثم تاركه وإنّما لزوما ووجوبا صناعي خاص كما قال الحصري :" ...وسمي الوقف على هذه المواضع وما شاكلها لازماً للزومه وتحتّمه , وليس معنى ذلك أنّه لازم شرعاً بحيث يستحقّ القارئ الثواب على فعله , والعقاب على تركه , بل المعنى أنّه لازم لجودة التلاوة , وإحكام الأداء , فالقراءة لا تكون جيّدة الصنع , محكمة النسج , بديعة النسق إلاّ إذا روعيت فيها هذه الوقوف ."[11] وهذا القسم من الوجوب هو الذي أشار إليه الإمام الحافظ ابن الجزري بقوله في المقدمة
وليس في القرآن من وقف وجب ولا حرام غير ما له سبب
يقول الملا علي القاري في شرح هذا البيت ما نصّه : "...فيجوز وصل الكلمات من أوّلها على آخرها في القرآن العظيم , ولا يكون فاعله تاركاً لواجب عليه بمعنى أنّه يأثم بترك الوقف لديه, وإنّما ينبغي له بالوجوب الاصطلاحي[12] ويستحب له باللزوم العرفي في مراعاة الوقوف القرآنية..."[13]
ونفس الكلام تقريبا يقال عن القسمين الأخيرين ؛ فخلاف القراء في بعض الأحرف لازم لا يجوز العدول عنه إلى غيره لكن الأخذ بوجه دون وجه لا يوجب الإثم الشرعي ...والتجويد واجب وتعلّه لازم متعلق بذمة جميع المكلفين بقراءة شيئا من كتاب الله عزّ وجلّ لكنّ من أتقن القراءة بالتلقين أو بالطبع دون تعلّم لقواعده ومسائله لا يوقعه في الإثم الشرعي ولا يسمى عاصيا ... والله أعلم بالحقّ والصواب .
3. الواجب الاصطلاحي : هو الذي يطلق في مقابلة اللازم والجائز والممتنع
· فاللازم ما أجمع القراء على حكمه من جميع الوجوه أو هو ما أجمع القراء على حكمه وصفة حكمه مثاله : المدّ اللازم في نحو : {ألم}, {يس} في فواتح السور وفي {ولا الضالّين} و {ءالـْـآنَ} و{محيايْ} ونحو ذلك...فقد أجمعوا على المدّ وعلى أنّه لا يقلّ عن ستّ حركات... ومثله إبدال الهمز في نحو {ءادم} و{إيمان} و{أوتي} فقد أجمعوا على تغييره وعلى أنّه لا يغيّر إلاّ بالإبدال ...وقد يطلق بعضهم على هذا النوع اصطلاح الواجب الصناعي كما تقدّم قريبا...
· الواجب هو ما أجمع القراء على حكمه و لكن ليس من جميع الوجوه أو هو ما أجمع القراء على حكمه دون صفات هذا الحكم ومثاله في مقابل الأمثلة المتقدمة في اللازم ؛ المدّ الواجب وهو المدّ المتّصل الذي أجمع القراء على مدّه ولكنّهم اختلفوا في مقدار هذا المدّ وحكم الهمزة الثانية في {ءالذكرين} , {ءالله} , {ءالان} أجمعوا على تغييرها و اختلفوا في طريقة هذا التغيير فذهب أكثرهم إلى التغيير بالإبدال واختار آخرون التغيير بالتسهيل ...
· الجائز ما اختلف القراء في حكمه ومثاله في مقابل الأمثلة المتقدمة ؛ المدّ الجائز في المنفصل نحو {بما أنزل}والعارض نحو الوقف على {العالمين} والبدل نحو {ءادم} اختلف القراء في حكم مدّه بين من زاد على ما في أصله وبين من قصره على ما فيه من المدّ الطبيعي , وتغيير الهمز في نحو أَءَرباب , أَءِله , أَءُلقي ...اختلفوا بين من أجاز التغيير بمختلف أوجه التغيير وبين من منعه وقرأ بالتحقيق
· الممتنع : ما أجمع القراء على إسقاط الحكم فيه كامتناع المدّ في بعض الأحرف وامتناع الإدغام في أخرى وهكذا ...
[1] الحدود في أصول الفقه للباجي ص80 , علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص105 وما بعدها ,الواضح في أصول الفقه للدكتور محمد عبد الله سليمان الأشقر , إرشاد الفحول للشوكاني ص17 مذكرة الشنقيطي على روضة الناظر ص31 ـ 32
[2] الشيخ عثمان بن سليمان مراد رحمه الله : نظم السلسبيل الشافي في التجويد , هو نظم جامع في أحكام التجويد يتكون من 265 بيت
[3] البيت رقم 155
[4] نهاية القول المفيد ص43
[5] محمد مكي نصر الجريسي : نهاية القول المفيد في علم التجويد ؛مكتبة الصفا 1999م 1420هـ ص42
[6] معجم مصطلحات علم القراءات للدكتور عبد العلي المسئول ص336
[7] تمام الآية {لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ونقول ذوقوا عذاب السعير}
[8] نهاية القول المفيد ص44
[9] نفسه ص44 ـ 45
[10] محمود خليل الحصري : معالم الاهتداء إلى معرفة الوقوف والابتداء ؛ مكتبة السنة القاهرة 1423هـ 2002م ص14
[11] نفسه ص15
[12] يقصد الوجوب الصناعي بدليل قوله (اللزوم العرفي)
[13] المنح الفكرية ص136
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق