الأحد، 25 يوليو 2010

التجويد العلمي والعملي بين النظرية والتطبيق

التجويد العلمي والعملي بين النظرية والتطبيق

جمهور أهل العلم فرّقوا في مبحث حكم التجويد بين قسميه العلمي والعملي فقالوا بوجوب الأوّل وجوبا كفائيا وبوجوب الثاني وجوبا عينيّاً وفي المسألة أقوال ومذاهب أخرى سيأتي بيانها

وسنحاول من خلال هذا المطلب الوقوف على حقيقة هذا التفريق على مكانته في علم التجويد و على مدى مطابقته للواقع ...

التجويد العلمي هو قواعد العلم وجانبه النظري المسطّر في المؤلفات والكتب ...

أما التجويد العملي فهو قراءة القرآن الكريم وفق هذه القواعد دون الإخلال بشيء منها ...

إنّ السبب الأوّل والأهمّ ولا يبعد أن يكون الوحيد ... الذي دفعهم للتفريق بين القسمين هو حكمهما الشرعي المختلف ولا سببّ وجيه لاختلاف هذا الحكم إلاّ كون التجويد العملي حسب زعمهم يمكن تحصيله دون الوقوف على التجويد العلمي ... لهذا لم يأخذ حكمه وإلاّ فإنّ الأصل في الوسائل أن تأخذ حكم مقاصدها وغاياتها ... ولنا على هذه القسمة ملاحظات نسجلها في شكل نقاط لا بدّ من مراعاتها واستحضارها عند الوقوف على مباحثها ...

ü سبق وأن قلنا في مباحث تعريف التجويد : "... هي قسمة وإن كانت وجيهة في أوّل الأمر لما كان لا يزال اللسان العربي مستقيم الطبع أو قريبا من ذلك لا يحتاج إلى كثيرِ دراسة ورياضة وعناية ليصل إلى تجويد الحروف وتصحيحها , أمّا اليوم وقد غلب على كلامنا لسان الأعاجم وامتزجت العربية الأصيلة برطانة اللهجات الدارجة فإنّه يصعب ويشقّ إن لم أقل يستحيل على الواحد منّا أن يتمكن من القراءة المجوّدة الصحيحة دون الوقوف على الجانب النظري من التجويد ودراسته وبحثه وفهمه واستيعابه ..." فيعود الأمر بذلك إلى الأصل وهو كون أحكام المقاصد والغايات تنسحب على وسائلها ولا داعي ولا مجال للتفريق حينها بين القسمين من جهة حكمهما الشرعي

ü وقلنا أيضاً : "... إنّه ما من علم إلاّ وله جانب علمي وآخر عملي , لأنّ أصل العلم إنّما يقصد به العمل فالتفسير له قواعده وأحكامه والمقصود منه الفهم والتدبّر والفقه كذلك يقصد به العمل بأحكامه والأصول التمكن من الاستنباط ونحو ذلك ...فهل ذكروا هذه التفصيلات والتقسيمات في تعريفاتهم [وأحكامهم]...بل وهل اشترطوا العمل من أجل العلم هل اشترطوا لمن يريد أن يتعلم أحكام الحجّ أن يحجّ ولمن يتعلم أحكام الاستنباط أن يستنبط أبدا لم يشترط ذلك أحد[1] بل الشرط كلّ الشرط أن لا يحجّ إلاّ من فقه الحجّ ولا يستنبط إلاّ من فقه الاستنباط ولا يجوّد إلاّ من فقه التجويد فأين الفرق بين علم التجويد وغيره من العلوم ـ من هذه الحيثية ـ حتى نشترط فيه ما لم نشترطه في غيره [ونضع له ـ وحده ـ تفصيلات وتقسيمات وأحكاما خاصّة لم نضعها لغيره ]..."

ü إنّ العمل بالتجويد متوقف على العلم بقواعده , وقد يدّعي البعض أنّه يستطيع الاستغناء عن شيء منها وربّما كثير منها ويعوّض ذلك بما يسمعه من القراءة الصحيحة وهذا مردود من جهتين اثنين :

· الأولى : إنّه ادّعاء لا يصدّقه الواقع فمن يأتنا بهذا الذي يحسن التجويد ولا علمَ له بقواعده

· الثانية : إنّ الإحاطة بجميع مباحث التجويد ومسائله بمجرد السماع غير ممكن إذ كثير من الأحكام لا تأخذ بالسماع كالإشمام الذي لا علاقة له بالسمع أو كتلك المتعلقة بالرسم ثمّ إنّ القواعد الكلية والأصول لا يمكن العلم بها من خلال سماع جزئياتها وأفرادها ...إذ الجمع بين هذه الجزئيات يحتاج إلى نظرة كلّية لا تتحصّل إلاّ لمن له إلمام بقواعد التجويد

ü حتّى لو سلّمنا أنّ التجويد العلمي يفرق عن العملي لا من حيث وجوبه ولكن من حيث تعيّن العملي دون العلمي كما هو مذهب الجمهور على ما سيأتي بيانه ... ما حكم الواجب الكفائي إذا لم تتأد هذه الكفاية ؟ أليس الإثم حينها يعمّ الأمّة كلّها ؟ والمقصود بالكفاية ليس حفظ العلم ـ والله أعلم ـ وإنّما وجود كفاية من العالمين به قادرين على تصحيح قراءة الناس ... ولا أحد يقول بتعميم الإثم ولكن المطلوب والمقصود من أهل العلم والشباب منهم على وجه الخصوص أن لا يزهدوا في تحصيل هذا العلم بحجة أنّه مستحبّ أو واجب كفائي وأنّ القراءة الصحيحة ممكنة دون تعلّمه والوقوف على مسائله ...

ü حتى ولو سلّمنا جدلاً أنّ العمل بالتجويد ممكن دون العلم بقواعده وأحكامه فإنّ هذا الذي يقرأ القرآن ويجوّده بمجرد التلقي سرعان ما يلحن فيه ويقرأه بما لم ينزل به إذ لا يمكنه حفظ وضبط ما لا علم له به سوى نقل كنقل الببغاء لن يبرح أن تلحقه آفة الخلط والنسيان يقول الإمام مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله : "القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد فمنهم من يعلمه روايةً وقياساً وتمييزا فذلك الحاذق الفطن . ومنهم من يعرفه سماعاً وتقليداً فذلك الوهن الضعيف . لا يلبث أن يشكّ ويدخله التحريف والتصحيف , إذا لم يبن على أصل ولا نقل على فهم"[2]ِ ويقول أبو بكر بن مجاهد في وصف حملة القرآن : "مِن حملةِ القرآن : المعرِبُ العالمُ بوجوه الإعرابِ والقراءاتِ العارف باللغات ومعاني الكلام , العالم البصير بعيب لفظ القراءةِ المنتقد للآثار.[3] فذلك الإمام الذي يفزعُ إليه حفاظُ القرآن من كلّ مصرٍ من أمصار الإسلام . ومنهم : من يُعرِبُ ولا يلحن ولا علمَ عنده غير ذلك . فذلك كالأعرابي الذي يقرأُ بلغته ولا يقدرُ على تحويل لسانه فهو مطبوع على كلامه .[4] ومنهم: من يُؤدّي ما سمعه ممّن أخذ عنه وليس عنده إلاّ الأداء لما تعلّم لأنّه لا يعرفُ الإعراب ولا غيره . فذلك الحافظُ فلا يلبثُ مثله أن ينسى إذا طال عهده , فيضيع الإعراب لشدّة تشابهه عليه , وكثرة ضمّه وفتحه وكسره في الآية الواحدة , لأنّه لا يعتمد على علم العربية . ولا به بصر بالمعاني يرجع إليه , وإنّما اعتماده على حفظه وسماعه . وقد ينسى الحافظ فيضيع السّماعَ , ويشتبه عليه الحروف , فيقرأ بلحنٍ لا يعرفه , وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره , ويبرّئ نفسه , وعسى أن يكون عند الناس مصدَّقاً , فيحمل ذلك عنه, وقد نسيه وأوهم فيه وحبسَ نفسه على لزومه والإصرار عليه . أو يكون قد قرأ على من نسيَ وضيّعَ الإعرابَ , ودخلته الشبهة فتوهّم . فذلك لا يَقلَّدُ القراءةَ ولا يحتجُّ بنقلِه ..."[5] والخلاصة أنّ هذا الذي تمكّن من التجويد العملي دون الوقوف والنظر في التجويد العلمي لن يسلم من الخطأ والنسيان أو على الأقلّ لا ينبغي أنْ نأتمن ونطمئن لحفظه الخالي والمجرد من الضبط والدراية والوعي ...بل قد يتعدى خطره ويعظم إذا لحن أو نسي دون أن يتفطّن هو أو من يقلده وينقل عنه هذا الخطأ والنسيان ـ وكيف يتفطّن للخطأ وهو لا يملك آليات المعرفة والتمييز ـ فينقلب الباطلُ حقّاً والخطأ صواباً ... فيُحرّف كتاب الله ويعدلُ عنه والعياذ بالله ...

ü ثمّ إنّ من كمال المقرئِ وتمام الإقراءِ الجمع بين التنظير والتطبيق بين العلم والعمل يقول مكي رحمه الله : "فنقلُ القرآن فطنةً ودرايةً أحسن منه سماعاً وروايةً , فالرواية لها نقلها والدراية لها ضبطها وعلمها , فإذا اجتمع للمقرئ النقلُ والفطنة والدرايةُ وجبت له الإمامة وصحّت عليه القراءة , إن كان له مع ذلك ديانة"[6] ويقول الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله :" وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق فمنهم من يعلم ذلك قياساً وتميزاً وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمه سماعاً وتقليداً وهو الغبي الفهيه، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعاً ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها وللرواية نقلها وتعلمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ."[7]

ü إنّ هذا الذي فرضناه تمكّن من التجويد العملي دون النظر في التجويد العلمي لا يمكنه أنْ يعلّمَ غيره وهو واجب إثمه لا يرتفع ولا يندفع عن الأمّة حتى يحصل فيه الكفاية ... كما أنّه لا يؤتمن على القرآن من نقله ـ كما تقدّم ـ فما فائدة موهبته تلك التي لا تتعداه لغيره.

ü بعضهم علّق وجوب التجويد بما اتفق القراء عليه دون ما اختلفوا فيه يقول ابن حجر الهيثمي رحمه الله :"يجب وجوبا شرعيا على القارئ أن يراعي في قراءته الفاتحةِ وغيرِها ما أجمع القراءُ على وجوبه دون ما اهتلفوا فيه..."[8], ولا يمكن التحقق ممّا اتفق عليه القراء وممّا اختلفوا فيه إلاّ بالوقف على كتبهم ومنقولاتهم لا بمجرد السماع ـ والله أعلم ـ

ü ولهذه الأسباب جميعها نصّ غير واحد من أهل العلم على وجوب التجويد العلمي كالعملي , سواء كلّه بالنسبة لطلبة العلم وأهله أو الجزء الذي لا يمكن تصحيح القراءة إلاّ به بالنسبة لعموم المسلمين ...يقول الشيخ محمود علي بسّة :" وأمّا حكم تعليمه فهو فرض كفاية بالنسبة إلى عامة المسلمين, وفرض عين بالنسبة إلى رجال الدين من العلماء والقراء, ومهما يكن من شيء , فإنه يأثم تاركه منهم ويتعرض لعقاب الله..."[9] ونفس الكلام قاله الشيخ محمد مكي نصر الجرسي يقول الشيخ الحصري رحمه الله :"...وأما بالنسبة لأهل العلم فمعرفته واجبة على الكفاية , ليكون في الأمة طائفةٌ من أهل العلم تقوم بتعلّم وتعليم هذه الأحكام لمن يريد أن يتعلّمها , فإذا قامت طائفةٌ منهم بهذه المهمة سقط الإثم والحرج عن باقيهم , وإذا لم تقم طائفة منهم بما ذُكر أثموا جميعاً ."[10] ويقول أحمد الطويل :"معرفة قواعد التجويد وأحكامه فرض كفاية على الأمة , إذا قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن الباقين , إلاّ إذا لم يتأتّ التجويد العملي إلاّ بمعرفة التجويد العلمي , فإنّه يأخذ حكمه , فما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ."[11] ونحو ذلك في الشرح العصري لمحمد بن محمود حوّا[12] بل و في جلّ كتب التجويد الحديثة منها على وجه الخصوص فالقدماء قلّ من فرّق بين القسمين



[1] هذا الكلام إنّما ذكر في فصل التعريف ردّاً على من أدرج في تعريف التجويد العمل به فلا يتأتى العلم بالتجويد إلاّ بتطبيقه

[2] مكي بن أبي طالب القيسي (437هـ) : الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة ؛ دار الصحابة للتراث 1422هـ 2002م ص22

[3] يلاحظ ها هنا أنّ اصطلاح التجويد لم يكن قد ظهر بعد بل والعلم ذاته لم يكن قد استقل عن علوم اللغة والقراءات فهو مندرج في قوله (وجوه الإعراب) وفي قوله (القراءات) وظاهر أتمّ الظهور في قوله (عيب لفظ القراءة...) والله أعلم .

[4] ولم يعد لم يقرأ القراءة الصحيحة بطبعه وسجيّته على السليقة وجود في زماننا هذا ولا في الأزمنة المتقدمة بعد أن دخل اللحن اللسان العربي عندما اختلط المسلمون بغيرهم من الأعاجم

[5] المرجع نفسه ص23

[6] المرجع السابق ص22

[7] نقلا من: محمد بن سيدي محمد محمد الأمين ؛ الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز , نسخة إلكترونية , مبحث تاريخ التجويد

[8] الشرح العصري ص49

[9] العميد ص8 والوصف الأخير قاله دون التفريق فيه بين قسمي التجويد وانظر : محمد مكي نصر الجرسي . نهاية القول المفيد في علم التجويد , مكتبة الصفا الطبعة الأولى 1999م ص6

[10] محمود خليل الحصري (1401هـ) :أحكام قراءة القرآن ؛المكتبة المكية بالاشتراك مع دار البشائر الإسلامية بتحقيق محمد طلحة بلال ,ط2 ص27

[11] تيسير علم التجويد ص9

[12] الصفحة 49

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق